في ظلّ الحرب الإيرانية الإسرائيلية الحالية، والتي بلغت ذروتها بالتدخل الأمريكي وقصف المفاعلات النووية الإيرانية، يبرز خطاب غارق في الأسطرة والجهل بالآخر، أبعد ما يكون عن الحقيقة التاريخية. هذا الخطاب الذي يجعل من الشيعة أخطر أعداء الإسلام، بصورة أكبر من الأعداء الحاليين. راج هذا الخطاب السياسي اللاتاريخي في أعقاب الثورة الإيرانية، وما تلاها من توترات في علاقة طهران بمحيطها الإقليمي والدولي، ومفهوم اتخاذ هذا الخطاب من النزاع المذهبي ستارًا له، على اعتبار أن الأيديولوجيات الدينية قادرة على الحشد وتجييش الناس، ليس بسبب مشكلة في فكرة الدين، وإنما بسبب مقدرة البعض على ترويج خطاب طائفي متسربل بالدين، ويعمد إلى إثارة العواطف والنعرات المذهبية على حساب العقل والتاريخ.
وسُبل هذا الخطاب مختلفة؛ فتارة يستند إلى أقوال شاذة، وتارة أخرى يعمد إلى تضخيم وتعميق المسائل الخلافية والتدليس في كثير من الأحيان. على كل حال، فالصورة الشعبية الشائعة عن المذهب الشيعي في الذهنية العامة، صورة عبثية بكلّ ما تحمل كلمة «عبثية» من دلالات، وهي مزيج بين التعصّب والخرافة والآراء الشاذة، بداية من الجهل بفرق الشيعة المختلفة، سواء الموجود منها أو ما هو في ذمة التاريخ، وعدم التمييز بين الفرق الموجودة فعلًا كالإسماعيلية والإمامية والزيدية. ثم تتخذ من مسائل كالموقف من الصحابة وأمهات المؤمنين، والقرآن، والإمامة، والتقية، ميدانًا فسيحًا لها، وفي الوقت نفسه تقدّم صورة شعبوية تصلح لإلهاب العواطف، لا موقفًا علميًّا يمكن البناء عليه. وفيما يلي عرض أزعم أنه تاريخي لبعض تلك الأمور التي طالما تم استدعاؤها بشكل لا منهجي.
يؤسّس الخطاب الطائفي عن الشيعة لنفسه منذ البداية، فهو لا ينظر للتشيّع باعتباره مذهبًا نتج عن ظروف سياسية ودينية واجتماعية وأحيانًا اقتصادية، بل إنما يبدأ في التعامل معه كغرس شيطاني ومؤامرة على الإسلام، فيروّج لقصة ابن سبأ أو ابن السوداء، الذي كان يهوديًّا من صنعاء وأسلم ليؤلّب الصحابة على «عثمان بن عفّان» ثالث الخلفاء الراشدين، ويُنسب لابن سبأ هذا الدور الأكبر والأخطر في إشعال الفتنة الكبرى، وهو صاحب معظم الأفكار الشيعية. لكن الغريب أن «ابن سبأ» تختلف الآراء العلمية حوله ما بين الوجود والنفي ومحدودية دوره إن وجد من الأساس، وممّن مال إلى هذا الرأي من المذهب السنّي «طه حسين» في كتابه الفتنة الكبرى، وعالم الحديث الشهير «المعلّمي اليماني» في كتابه الأنوار الكاشفة، حيث قال عن ابن سبأ وقصته: «وقد نقدها الدكتور طه حسين في كتابه الفتنة الكبرى، فأجاد.» [1]
والمشكلة أن أصحاب هذا الاتجاه يتجاهلون أن نشأة التشيّع كانت سياسية صرفة، فلم يتخذ شكل التمايز العقدي عن الجماعة المسلمة إلا في أوقات متأخرة نسبيًّا للدرجة. ويتحدّث «محمد باقر الصدر» عن وجود التشيّع كفكرة يعتنقها أقلية في صدر الإسلام، ويُقرّ بتأخر المصطلحات زمنيًّا. [2]
ويميل إلى هذا الرأي أيضًا بدرجة قريبة الأزهري المعروف الدكتور «محمد إبراهيم الفيومي» في موسوعته الشهيرة تاريخ الفرق الإسلامية السياسي والديني، مع إقراره بعروبة التشيّع من حيث المنشأ، كما أنه يميل للتقليل من دور ابن سبأ كذلك. [3]
بالتالي، فنحن أمام رؤية علمية تاريخية تمثّلت في علماء السنّة والشيعة معًا، خلاف الخطاب الشعبوي الشهير الذي يجعل من التشيّع مؤامرة زرع بذرتها اليهود، ليرعى ثمرتها ويحصدها الفُرس.
ليس من السهل الوقوف على موقف واحد للشيعة تجاه مسألة سبّ الصحابة، فبينما نجد أنه وفقًا لعقيدة الإمامة يُنكرون خلافة الثلاثة، نجد مسألة السبّ وتكفير جميع الصحابة محل نظر أصلًا. ففي حديثه عن نشأة الغُلاة في المذهب الشيعي، يرصد الدكتور «علي سامي النشار» بداية الموقف الشيعي المغالي من الصحابة على يد «المغيرة بن سعيد البجلي»، حيث كان أوّل من أظهر البراءة من الشيخين (أبو بكر وعمر) ولعنهم. [4]
وجدير بالذكر أن ثمّة نفورًا من آراء المغيرة في المذهب الشيعي نفسه، واعتبار المغيرة كذّابًا وفقًا للقواعد الحديثية الشيعية، فنجد أبو القاسم الخوئي يترجم للمغيرة في معجم رجال الحديث، وينقل آراء الأئمة على كذبه، وآراء علماء الرجال الشيعة في عدم الاعتداد به. [5]
ومن ناحية أخرى، فثمة موقف علمي يمثّله أشخاص مثل «كمال الحيدري» و«محمد باقر الصدر»، وإن كان الأوّل معروفًا بكثرة انتقاده للموروث الشيعي، إلا أن الثاني في كتابه الشهير فدك في التاريخ، ومع انتقاده لخلافة الشيخين، غير أنه لم يلجأ لاتهامهم في دينهم أو السبّ واللعن.
وفي الوقت نفسه، فثمة وجود لسبّ الصحابة في الفكر الشيعي لا يمكن إنكاره باعتبارهم مغتصبين لحقّ الإمام علي في الخلافة. وإذا كنّا نتحدّث عن خطاب طائفي سنّي، فإننا نجد نظيره في الفكر الشيعي، إلا أن مربط الفرس أنه لا يمكن رمي مذهب بعينه عن قوس واحدة. وتجدر الإشارة إلى أن ثمّة موقفًا رسميًّا شيعيًّا تمثّله فتاوى المراجع التي تحرّم الإساءة لرموز أهل السنة، مما يجعلنا أمام مستويات عدّة للتعاطي مع المسألة في المذهب الواحد.
ثالث مسائل الاستهلاك الإعلامي التي تُستخدم لزيادة الاحتقان، هي مسألة زوجات النبي وموقف الشيعة منهن، وهي مسألة حسّاسة بطبيعة الحال. فنجد الشريف المرتضى في كتابه تنزيه الأنبياء والأئمة، يقول بنفي خيانة زوجات الأنبياء الحسية، لأن مقام الأنبياء يتنزّه عن ذلك. [6]
وفي تفسير الميزان للعلامة الطبطبائي الشيعي، عند حديثه عن حادثة الإفك، وبعد أن يذكر الخلاف بين السنة والشيعة في المقصودة من الحادثة: هل هي أم المؤمنين السيدة عائشة؟ أم السيدة مارية؟، يعمد إلى البحث الروائي، فيبحث في الروايات المتعلّقة بالمسألة، ويبدو الطبطبائي متجرّدًا في بحثه، فهو يورد الإشكالات التي يراها على الروايتين السنية والشيعية، بل ويذهب إلى أن النبي لم يشك في السيدة عائشة أصلًا، ويعلّل ذلك بأن: «إن تسرب الفحشاء إلى أهل النبي ينفّر القلوب عنه، فمن الواجب أن يطهر الله سبحانه ساحة أزواج الأنبياء عن لوث الزنا والفحشاء، وإلا لغت الدعوة، وتثبت بهذه الحجة العقلية عفّتهن واقعًا لا ظاهرًا فحسب، والنبيّ أعرف بهذه الحجة منّا، فكيف جاز له أن يرتاب في أمر أهله برمي من رام أو شيوع من إفك؟» [7]
والحقيقة، أنه وفقًا للنصوص والسلوك الشيعي العام، فالانتقاص من زوجات النبي أقلّ بكثير مما يتمّ تضخيمه والنفخ فيه إعلاميًّا، مع الإشارة إلى أن طهارة زوجات النبي ﷺ عند الكثير من علماء ومراجع الشيعة، تابعة أو ناتجة عن عصمته ﷺ.
وجدير بالذكر أن الكثير من رواسب الموقف الشيعي تجاه أمّ المؤمنين السيدة عائشة بالتحديد، لا يعود لكونها ابنة أبي بكر الصديق، وإنما لموقفها من الإمام علي في الجمل. ولن تُعدم شيئًا من تلك الإدانة الخفية عند بعض المنتسبين لأهل السنّة أنفسهم، كما نجد عند «عائشة عبد الرحمن» في كتابها عن السيدة «زينب بنت علي».
تأتي مسألة قول الشيعة بتحريف القرآن، وهي أخطر ما يُنسب إليهم، لما يترتب عليها من نتائج صعبة، إذ إنها وفقًا للتقاليد الفقهية السنية تُفضي للقول بتكفيرهم أصلًا، بينما باقي ما يُنسب إليهم أقصاه أن يدخلهم فقهيًّا ضمن زمرة أهل البدع.
لا بدّ من الإشارة أوّلًا إلى أن ثمّة معاني مختلفة لمصطلح التحريف عند الشيعة، ذكر منها الدكتور «محمد الصياد» خمس معانٍ خلاف المعنى المتبادر إلى أذهان العامة، من أن هناك سورًا ناقصة ومصحفًا مختلفًا عن المتداوَل. [8]
بالإضافة إلى أن الشيعة الإمامية أنفسهم لم يُسلّموا بروايات تحريف القرآن بالمعنى الشاذ، بل قاموا بالردّ عليها، إما بالتكذيب أو التوجيه.
ويجب أن يؤخذ في الاعتبار وجود تيارين في الفكر الشيعي: «الإخباريين» و«الأصوليين». وبينما يعتمد أنصار الاتجاه الأخير على علم أصول الفقه وطرق الاستنباط وباقي العلوم الإسلامية، فلا يلتزمون بالروايات مطلقًا، نجد أن الفريق الأول يجعل من الروايات عمدته طالما وردت في أحد الكتب المشهورة لديهم، بالإضافة إلى إنكار أصول الفقه والكثير من المُجمَع عليه عند باقي علماء الشيعة الإمامية.
وتكمن المشكلة في أمرين: وجود الروايات التي تفيد التحريف بالمعنى الشاذ في كتب الشيعة، وعدم الالتفات إلى تعامل علماء الإمامية معها، وهم أنفسهم لا يقبلون كل ما ورد في كتبهم، بالإضافة إلى تضخيم المناكفات المذهبية للنوري الطبرسي، وتصويره كأنه الممثّل الحصري للمذهب الشيعي، وكذلك الأمر مع «نعمة الله الجزائري» – الذين ردّ عليهم الشيعة قبل غيرهم – والانصراف تمامًا عن الخوئي والطبطبائي وغيرهم.
والخميني على سبيل المثال يصرّح قائلًا: «كتب الطبرسي لا تفيد علمًا ولا عملًا... وإنما هو إيراد روايات ضعيفة أعرض عنها الأصحاب.» [9] ويشير في موضع آخر أن: «الكتاب هو عين ما بين الدفتين.» [10]
وللباحث والمؤرخ الشيعي «رسول جعفريان» كتاب يُفصّل المسألة من وجهة نظر تاريخية شيعية هو أكذوبة تحريف القرآن بين الشيعة والسنّة، بالإضافة إلى كتب الشيعة الأساسية في التفسير مثل الميزان ومجمع البيان، وكذلك كتب أصول الفقه، حيث تجد فيه مسألة «التحريف» ضمن مباحث الظنّ.
وفي النهاية، كلّ هذا وأكثر يحدث ويُقال، إلا أنه – ومع كل سلبياته – يمثل صورة حيّة لما تكون عليه الأمور عندما يتم استغلال النعرات المذهبية لأهداف سياسية، ومن ثمّ، تفقد مفهوم «الآخر المخالف»، وحتى مفهوم «المبتدع المخالف» لن تجده، ليتحوّل المختلف معك بالضرورة إلى شيطان رجيم.